
في زمنٍ تتزايد فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تتكرر على أسماعنا دعوات الحكومات والمؤسسات إلى “تحقيق السعادة”، وكأنها الحل السحري لكل أزماتنا. لكن، هل السعادة التي نُطالب بتحقيقها اليوم هي شعور حقيقي ينبع من داخلنا؟ أم أنها أداة خفية تستخدم لتوجيه سلوكنا وزيادة استجابتنا لما يريده الآخرون منا؟
هذا ما يناقشه الكاتب والباحث البريطاني ويليام ديفيز في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان:
“The Happiness Industry: How Government and Big Business Sold Us Well‑Being“
أو كما يُترجم: “صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى وهم السعادة”.
السعادة تتحول من قيمة إنسانية إلى وسيلة للسيطرة
في الأصل، كانت السعادة مفهوما داخليا، شخصيا، ومرتبطًا بالحرية والرضا. لكن ديفيز يكشف كيف تحولت هذه القيمة إلى “أداة قياس” تُستخدم في إدارة الشركات، وتصميم السياسات الحكومية، وحتى في حملات التسويق.
فلم تعد السعادة غاية إنسانية بحتة، بل أصبحت وسيلة اقتصادية وسياسية يتم من خلالها دفع الناس نحو سلوكيات معينة: الإنتاج أكثر، الاستهلاك أكثر، والطاعة أكثر.
شركات تُسوق السعادة.. مقابل مزيد من الأرباح
الشركات الكبرى، كما يشير ديفيز، لا تبيع لنا منتجات فقط، بل تبيع “شعورا بالسعادة” مرتبطًا بالمنتج.
إعلانات ترتبط بمشاعر الفرح، تطبيقات تقيس المزاج، شعارات تَعِدُ بأن تكون أكثر سعادة فقط إذا اشتريت هذه السلعة أو تلك الخدمة.
وفي بيئات العمل، بدأت الشركات تتبنى ما يسمى “برامج الرفاه الوظيفي” كأنها تهتم براحة الموظف، لكن الهدف الحقيقي غالبًا ما يكون: زيادة الإنتاجية، لا راحة الإنسان.
الحكومات تراقب المواطنين باسم السعادة
ليست الشركات وحدها من يُسهم في هذا التوجه. حتى بعض الحكومات بدأت تقيس “مستويات السعادة الوطنية” وتتباهى بها، بينما قد تكون هذه الأرقام بعيدة تماما عن الواقع.
وفي هذا السياق، يُحذر ديفيز من أن مراقبة الأفراد وتوجيه سلوكهم قد يتم تبريره بحجة “تحقيق الرفاه العام”، في حين أنه أقرب إلى فرض نمط حياة معين على الناس، وتهميش كل من يخرج عنه.
هل نمتلك حق الشعور بالحزن؟
في عالم يفرض علينا أن نبدو سعداء طوال الوقت، يصبح التعب، الحزن، أو الاحتجاج، سلوكًا غير مقبول اجتماعيا، أو حتى يُعامل كـ”خلل يجب علاجه”.
وهكذا، يتم قمع المشاعر الحقيقية، واستبدالها بمشاعر مُصطنعة مفروضة علينا.
السعادة الحقيقية لا تُفرض ولا تُشترى
يُعتبر كتاب “صناعة السعادة” صرخة تنبيه ضد تحويل مشاعر الإنسان إلى أدوات في يد السلطة والاقتصاد.
إنه دعوة للتساؤل:
هل من حقنا أن نعيش حزننا؟ هل نمتلك حرية أن نكون “غير سعداء”؟
وهل السعادة التي نُلاحقها، هي سعادتنا حقًا، أم سعادتهم هم؟
وفي بعض الدول بمنطقتنا العربية، تُستخدم الشعارات البراقة كثيرًا لتغطية أزمات الواقع، وهنا نحتاج إلى إعادة التفكير في ما يُقدم لنا باسم “الرفاه”. فالسعادة لا تُقاس بأرقام ولا تُوزَّع بقرارات، لأن السعادة الحقيقية تُبنى بالعدالة، والكرامة، والحرية.